جامعة اكسفورد ورحلة الشريف الوداني

الكاتب: د.علي عبد اللطيف حميدة بتاريخ: 27/01/2019


فى يوم 29 نوفمبر سافرت إلى جامعة أكسفورد العريقة بالمملكة المتّحدة، بعد ما كرّمتني هذه الجامعة بدعوتي لأكون ممتحنًا خارجيًّا لطالبة تقدّمت برسالة دكتوراه عن ليبيا فى المرحلة الاستعمارية .

جامعة اكسفورد عادة ما تدعو أستاذًا مبرزًا ومتميزًا متخصّصا فى موضوع رسائل الدكتوراه من خارج الجامعة، بالإضافة إلى أستاذ من داخل الجامعة، ولكن ليس من نفس القسم الذى يدرس به الطالب.

ترددتُ فى البداية لأنّني كنت أعاني من آلام حصوة فى الكلى، ولكني استشرتُ طبيبتي التي قرّرت أن أكشف على الحصوة مرة أخرى، وأعطتني الضوء الأخضر، ولكن بعد التأكيد على مواصلة أخذ العلاج.

سافرتُ بواسطة الحافلة من ولاية " مين " حيث أعيشُ وأقوم بالتدريس خلال عقدين من الزمان ، وصلت إلى مطار لوجان فى مدينة بوسطن، ومنها سافرت إلى لندن ، تحديدا مطار هيثرو الدولي، الرحلة كانت صعبة لأنني لا أستطيع النوم فى الطائرة، ولكنني وصلت وأخذت حافلة لمدينة اكسفورد.

وصلت للمدينة ووجدتها ذات طابع فريد من القرون الوسطي، بعمارتها وألوانها، وأعجبني الحفاظ على التراث القديم، والذى فشلنا نحن الليبيون في الحفاظ عليه، وتذكرت واحة ودّان حيث ولدتُ، وكيف لم أجد الشارع الكبير ( والصيبة ) اللوطية، ومقام سيدي صالح، والخوخه، وشارع شباشة، والزاوية السنوسية، كما اكتشفت بعد 30 عاما من الغياب، بل إنني اكتشفتُ أنّ سور واحة سوكنة البديع والذى عمره أكثر من ثلاثه قرون دُمِّر تمامًا واختفي، وتحسّرتُ عندما ذكرتُ هذا لأستاذ انتربولجي أمريكي عاش في سوكنة في بداية الستينات، وقال لي: الشخص الذي دمّر السّور يجب أن يُحاكم! ولكن ما علينا، نحن الليبيون مُولعون بفكرة سيئة، وهي القطيعة مع الماضي، بل إنكار وأحيانا تدميره، بعكس جيراننا المصريّين والتونسيّين.

بعد أن وصلت إلى مقر الإقامة اكتشفت أنّ الجامعة حجزت لي حجرة في بيوت الطلبة، ذو الطابع العريق منذ القرن السادس عشر، وغرفتي كانت صغيرة ونظيفة، ولكن بدون هاتف وتلفزيون أيضا، الهدوء كان نسبيا، ولكن بعد أن حل المساء تذكّرت بأن المكان بيت طلبة، واليوم هو السبت أي عطلة نهاية الأسبوع، والمكان لا ينام، وازداد صخبًا حتى الصباح.

في الصباح أخذت تاكسي إلى مقر الامتحان، وقابلت الأستاذ الممتحن الآخر، وكانت أمامي مفاجأة، الأستاذ عديل مالك أستاذ اقتصاد من أصل باكستاني بشو شا وودودا، وقال لي: إنه قرأ كتابي عن صناعة ليبيا الحديثة، والذي ترجم للعربية باسم: المجتمع والدولة، ولكن منع توزيعه داخل ليبيا إبان حقبة سبتمبر، وقال لي: بأن الفصل عن الاقتصاد السياسي للسنوسية هو الأهم لديه، طلب مني توقيع الكتاب، فقلت : طبعا بكل ود.

أمّا المفاجأة الثانية فهي الطالبة التي كتبت رسالة الدكتوراه، واسمها الأخير الطرابلسي، وبعد أن سألتها عرفتُ خلفية متداخلة. أعرفُ أنّ المهاجرين الليبيّين فى تونس أو التونسيين من أصل ليبي يُعرفون باسم الطرابلسي، ولكن بعكس مصر حيث إن كل القادمين من الغرب، أي غرب الإسكندرية وحتى منتصف القرن العشرين يُطلق عليهم مغربي، ويعني هنا الليبي أو الطرابلسي ( قبل 1951) التونسي والجزائري والمراكشي أو المغربي. الطالبة جدّها الكبير هاجر من مدينة طرابلس إلى تونس العاصمة، وجدها الثاني هاجر إلى مصر وتحديدا إلى مدينة الاسكندرية، درست فى مصر، وتعيش في بريطانيا منذ فترة طويلة، وهذا يعني أن الحركة داخل البلدان المغاربية مفتوحة حتى أمد قريب، وأنّ الهوية متعددة المستويات في أن الهوية الواحدة قاتلة ومعقدة وسلبية فى بعض الأحيان، وكما الحال فى ليبيا الآن.

استمر الامتحان viva لمدة ثلاثة ساعات ونصف، وكانت الرسالة عن الروابط والنقابات الأهلية والمدنيّة في العهد الإيطالي ومرحلة الاستقلال حتى 1969، وقرّرنا أن الرسالة تُقبل، ونجحت في الامتحان الشفهي، ولكن طلبنا منها بعض التعديلات الأساسية.

ودّعني الدكتور عديل، وأخذت الحافلة إلى المطار، فى الطريق إلى تونس عن طريق رحلة للخطوط الجوية التونسية.

وعند الوصول إلى تونس شعرت بالسعادة و تذكرت ودان وسبها وطرابلس وبنغازى ورحلتي التي طالت من مصر للولايات المتحدة، وكأنني أقاوم حنين الطفولة والصبا، بأن أحمل وطنا مهمّا فوق الرحلة، يبدو أنها لن تنتهي، ولكن هذا يفتح آفاقًا إنسانية ووجودية للحياة؛ لأن أرض الله واسعة، ولكن لكل خيار عواقبه. وأعترف بأنني رغم رحلتي الطويلة لم أستطع أن أتخلّص من عبء وطني ألأصلي وعند الدخول للفندق في حي قمّرت سمعتُ الحديث وبالعربية وأيضا النكات والشتائم وابتسمتُ وتذكّرتُ ما قرأته في كتاب للروائي السعودي الراحل عبد الرحمن منيف، حيث قال بأنه قابل الروائي العراقي الكبير غائب طعمة فرمان في دمشق وهو الذي اضطر للحياة في المنفى في الاتحاد السوفييتي. المنفى كان مخرجا ولكن كان أيضا قاسيًا، قال غائب طعمة فرمان لمنيف: إنّني أشتاق لسماع اللغة العربية، بل حتى الشتائم باللغة العربية!، ابتسمتُ بدوري عند سماع الشتائم باللهجة التونسية، وفهمتُ ما كان يدور في رأس الروائي العراقي. كان ابن شقيقتي ينتظرني كما توقّعت.